رغم مرور قرابة خمسة عقود ونصف ما يزال الخامس من حزيران حاضراً فينا، وفي مجمل المتغيّرات التي حصلت والتي تستمر تداعياتها بأشكال كثيرة متراكبة.
كُتب الكثير في الذي حدث حول مجريات الحرب وأسباب الهزيمة، واختلفت المواقف والتقييمات حتى بين شخصيات واتجاهات كانت في مواقع المسؤولية في سوريا ومصر، وبين التبرير والتخفيف والاتهامات الثقيلة تتعدد التفسيرات.
ـ إذا وضعنا الحالة المصرية جانباً لأنها أكثر وضوحاً في عوامل الهزيمة، والتي يتفق الكثير على تلخيصها بـ:
1 ـ حقيقة مراكز القوى في الجيش المصري التي أظهرت أن المشير عامر وجماعته كانوا القوة المسيطرة، والفاعلة، ومستوى التسيّب والإهمال.
2 ـ رفض عبد الناصر البدء بالضربة الأولى استناداً إلى وعود وصلته من عدد من رؤساء الدول: السوفييت ـ الجنرال ديغول، وحتى الأمريكان، وغيرهم، بالوقوف ضد من يبدأ الحرب، والتقديرات غير الواقعية لحجم الخسائر التي يمكن أن تحدث فيما لو بدأت إسرائيل بالعدوان.
3 ـ الخلل الكبير في وسائل حماية الطائرات والمطارات والتي دمّر معظمها بنحو أربع ساعات. ينطبق ذلك على عدم كشف عدوان إسرائيل منذ بدايته.
4 ـ حالة الجيش المصري الذي نقل بسرعة إلى شرق القناة، والفوضى التي حصلت، وضعف وسائل الحماية والاستعداد، وأوضاع القطعات المصرية التي سحبت على عجل من اليمن والتي كانت منهكة...
إذا ما اكتفينا بهذه الأسباب الخاصة بالجبهة المصرية وانتقلنا إلى الحالة السورية فنكون أمام تفسيرين متناقضين:
ـ الأول: ينطلق من تفسير "تآمري" مسبق، بطله حافظ الأسد (وزير الدفاع وقائد القوى الجوية)، وهناك من يحمّل قيادة الحكم برمتها (مع تفاوت في توزيع المسؤولية) مسؤولية الهزيمة انطلاقاً من:
1 ـ تأخر الجيش السوري في دخول المعركة، خلاف المتوقع.
2 ـ "قصة" الخرق الإسرائيلي في القطاع الشمالي للجبهة بعدد محدود من الدبابات، وهو الأكثر تحصيناً من بقية قطاعات الجبهة التي تعتبر جميعها جيدة التحصين، ثم التوغل الإسرائيلي إلى بقية الجولان دون وجود مقاومة قوية خلافاً لطبيعة الجيش السوري وخبراته في المواجهات الحدودية مع إسرائيل على مرّ الأعوام.
3 ـ البيان رقم 66 لإعلان سقوط القنيطرة قبل احتلالها، وبما أثاره من لغط وتعدد في التبريرات.
4 ـ اتخاذ قرار بالانسحاب الكيفي الذي غالباً ما يُتخذ في حالة انهيار الجيوش وعدم قدرتها على الانسحاب للخطوط الدفاعية الثانية أو الثالثة، وما أحدثه القرار من فوضى عارمة، ومن تشتت قطعات الجيش في أرجاء مختلفة صعّب تجميعها كي تمارس دورها المأمول.
5 ـ موضوع "إلغاء الهجوم المعاكس" الذي كان مقرراً تنفيذه ليلة التاسع/ على العاشر من حزيران بهدف استعادة القنيطرة، ودحر القوات الإسرائيلية الغازية.
ـ معظم أصحاب هذا الرأي يستندون إلى ما يعتبرونه حقيقة ثابتة تطول حافظ الأسد وارتباطه المسبق (قبل سنوات) بالمخابرات البريطانية والأمريكية، وقيامه بفعل قصدي مخطط لتسليم الجولان (مفروشة) مقابل وصوله إلى الحكم وبقائه فيه.
ـ هذا التفسير لم يقتصر على جهات معارضة، أو معادية لنظام الحكم عموماً، ولحافظ الأسد خصوصاً، بل تخطّى ذلك إلى بعض الأوساط القيادية في الحكم كاللواء أحمد سويداني ـ رئيس الأركان ـ الذي عبّر لي شخصياً بأنه يعتبر حافظ خائناً، وأن الجيش السوري لم يحارب، وأنه حمى المتخاذلين والهاربين الذين شكلت لجنة خاصة لمساءلتهم ومحاسبتهم، وكانوا جزءاً مهماً من تكتله اللاحق الذي لعب دوراً في انقلابه عام 1970م.
ـ الثاني: وهو الذي مثّل الموقف الرسمي لقيادة الحكم في سوريا، والذي تكرّس في (المؤتمر القومي التاسع الاستثنائي) الذي عقد أشهراً قليلة بعد الهزيمة لمناقشة مسارها ونتائجها، منطلقاً من المسؤولية الجماعية فيها، ومن الاعتراف بعدد من العوامل النظرية والسياسية والبنيوية، وواقع المؤسسة العسكرية، وبالاستناد (القوي) إلى برقية الرئيس عبد الناصر التي ينصح فيها بقبول وقف إطلاق النار حفاظاً على الجيش السوري بعد أن وجهت إسرائيل ثقلها العسكري نحو الجبهة السورية إثر سقوط الجبهتين المصرية والأردنية، واتخاذ قرار بوقف إطلاق النار خلافاً لتوجهات تلك القيادة.
ـ ورغم مرور العقود لم أسمع من جلّ تلك القيادة اتهامات صريحة لحافظ الأسد بالخيانة، وإن اختلفت تفسيرات خلفيات ما حدث وشخصيته، وما يضم ويعدّ له قبل ذلك بسنوات.
ـ هناك من تحدث أن الأسد كان يرتّب أوضاعه منذ انقلاب 8 آذار 1963، وربما قبل ذلك، ليكون شخصية مهمة في قادم مستقبل البلاد، وقد سمح له موقعه كوزير للدفاع بالميزانية الضخمة المخصصة أن يتصرف كما يشاء دون محاسبة ورقابة وأن يشتري الولاءات ليكوّن جماعاته التي ارتبطت به.
ـ حقيقة أخرى برزت في هذا الطاغية العاشق للسلطة بأي ثمن، أنه من تركيبة مقايضة، وتعني هنا استعداده للمساومة على مختلف القضايا الوطنية والقومية، وقبض ثمنها.
ـ بالعودة إلى الهزيمة وبغض النظر عن تفسير أسبابها، فقد كانت هزيمة شاملة ليس للمشروع النهضوي، الحداثي، التحرري (على العموم)، وإنما للأمة بأسرها، وقد أطلقت العنان للردّة الشاملة في أهم نظامين عربيين من "بلدان الطوق" لتصبح شاملة ويدفن معها ذلك المشروع الوحدوي، النهضوي، بينما دفعت فلسطين الثمن الأكبر.
ـ هزيمة حزيران جعلت الأمة ـ على اختلاف نظمها وتركيباتها، جوفاء لا تملك أي مشروع خاص بها ولها. على العكس من ذلك فحتى الدولة القطرية التي ارتفعت جدرانها وتموقعت في حدود تتآكل بفعل الفشل في إقامة نظم تحترم الإنسان وحقوقه، وتطلق الحريات العامة والخاصة كي يشعروا كبشر لهم كرامتهم ومساحتهم، وهي منذ عقود تواجه حالات من التآكل، والتفتت والذعر من دول أخرى قوية لأنها تملك مشاريعها الخاصة، وقادرة على اختراق تلك المجتمعات الهشّة التي تزداد تفككاً، وبحثاً عن مهرب ولو بمغامرات أقرب للانتحار عبر محاولات اللجوء، بينما يضعف الانتماء إلى درجة التلاشي، خاصة عند الأجيال المتعاقبة التي لم يعد الوطن يعني لها الكثير، بل تنظر إليه كسجن تسيطر عليه أجهزة الأمن وأدوات السلطة القمعية ومزرعة خاصة للنهب والفساد.
الثورات العربية، وبغض النظر عن فظاظة وفظاعة الأدوار الخارجية فيها إلا أنها أظهرت بفجاجة عورات التركيبة البنيوية، وكشفت بقسوة حالات الاحتقان الداخلي وأكوام النوازع الاختلاطية التي يصنف معظمها لمرحلة ما قبل وطنية، وقُطْرية، وهذه إحدى المعضلات الكبرى التي قد تستغرق عقوداً بانتظار بلورة مشروع قُطري قد يمهد الطريق لمشروع عام تلتفّ حوله الأمة ويتيح لها ممارسة دورها العادي بين دول العالم.
نعم ستبقى هزيمة حزيران قائمة فينا ما لم يتجسّد البديل..